بقلم: وميض قلم
كان إبراهيم عليه السلام يعيش في بابل التي كان يحكمها آنذاك ملك يدعى نمرود، وكان أهل بابل ينعمون برغد العيش، ولم يقصر نمرود في إطعامهم وتوفير جميع سبل ووسائل الراحة والرفاهية، ولكنه حرمهم من شيء أكبر وأعلى مكانة من الطعام والشراب، لقد حرمهم حق التفكير وإشغال عقولهم، بل تمادى في ذلك حين نصب نفسه إلها لهم، فهو يرى أنه يدبر شؤونهم ويسير أمورهم، ولا يوجد من هو أحق منه أن يعبد، وقبل القوم المغلوب على أمرهم، المعطلة عقولهم، المملوءة كروشهم، وأصبح همهم التنعم والتمتع بما لذ وطاب من نعم الدنيا. ولما بعث إبراهيم عليه السلام ليدعوهم لدين الحق، اعترضوا على دعوته ولما حاول اقناعهم بالحوار لم يستجيبوا واستهزؤوا به، ولما انتقل إلى الاقناع بالفعل بعد عجزه عن إقناعهم بالقول، وحطم أصنامهم وأوثانهم، قرروا تعذيبه وعقابه بتجهيز النار ليحرقوه بها انتقاما لآلهتهم من الأصنام، ونفذوا العقوبة دون أي تدخل واضح من الملك الذي اطمأن لردة فعل عبيده الذين جهزهم لهذه المواقف، ويقال أن النمرود لابد أنه كان على علم بدعوة إبراهيم وكان من المخططين لهذه المحرقة، وبعد أن نجا الله إبراهيم عليه السلام من النار، رأى النمرود أن الأمر بدأ يشكل خطرا حقيقيا على ملكه وسلطانه، وشعر بأن إبراهيم سيهدد كرسيه وملكه ومكانته وبدأ الناس فعلا يشكون في أن نمرود هو الإله.
فاستدعى إبراهيم عليه السلام، وبدأ الحوار المشهور الذي تحكي تفاصيله آيات القرآن الكريم، حين ادعى نمرود أنه مدبر شؤون الكون، فحاججه نبي الله إبراهيم بأن الله يأتي بالشمس من المشرق وطلب من نمرود إن كان صادقا أن يأتي بها من المغرب، فبهت نمرود وأقيمت عليه الحجة، ولم يكن بإمكانه عقاب إبراهيم بعدما رأى أنه نجا من النار التي كانت كفيلة بإحراق مدينة بأكملها، فتركه وأرسل له عيونا ”مخابرات وجواسيس“ تتبعه وتراقبه وبعد ذلك قام هؤلاء العيون بتشويه سمعة إبراهيم وقذفه والتشهير به بين الناس، وضايقوه في كل تحركاته حتى قرر نبي الله إبراهيم عليه السلام الهجرة وترك القوم الظالمين بعدما أصابه من التضييق والإضرار ما يراه المصلحون في كل أمة.
وقد ذكر أن الملك نمرود إتهم إبراهيم عليه السلام بأنه يريد الفتنة ويريد شق المجتمع الذي اتسم بوحدته والتحامه وذلك بإتيانه بالدعوة الجديدة التي أتى بها، والمشهد يتكرر على مر التاريخ، دعاة الإصلاح يتهمهم من يعاديهم بإحداث الفتن في مجتمعاتهم.
ليس المشهد بمختلف كثيرا عما يحدث هذه الأيام في بعض الدول التي لا يتردد بعض سكانها بترديد عبارات تدل على أنهم في نعمة وترف، ولكن الجديد والمختلف هذه المرة أن من يلعب دور النمرود أياد خفية، متسترة باسم الأمن، فالنمرود هذه المرة عبارة عن مجموعة أشخاص مفسدين مجرمين، لا يريدون الخير إلا لأنفسهم والشر لغيرهم، والأمن في الأصل يراد منه الحفاظ على الأمن في بلد ما، وضمان سلامة شعب هذا البلد، ولكن مع الأسف في نرى الكثير من الأجهزة الأمنية في بعض الدول انحرفت عن مسارها وعن صلب وظيفتها، فأصبحت تروع الآمنين، وتعاقب المصلحين من الشعوب بحجة تأديبهم وعلاجهم، والحق أنه إسكات للضمائر الحية، ومحاولة لإغلاق باب الانتقاد البناء الذي يضر بمصالح المفسدين عاجلا أم آجلا.
والناظر بصورة خاطفة على ما حدث فيما يسمى بالربيع العربي، يمكنه التيقن بفشل هذه الأساليب الأمنية القمعية في التعامل مع الناس، أيا كانت أفكارهم ومعتقداتهم، فالسجون تخرج ثلاثة أصناف من الناس في عالمنا العربي، وأقصد سجون الرأي لا الجرائم التي هي أهون على المجرمين من سجون الرأي، الصنف الأول يخرج المعتقل متمسكا بأفكاره أكثر، وتتكون لديه مناعة من هذه السجون، والصنف الثاني يشتد ويتطرف في فكره، فيرى من عاقبه كافرا يجب قتله تقربا إلى الله، والصنف الثالث وهو نادر بأن يترك أفكاره للزمن، فلا توجد نتيجة واحدة ترضي بلهاء الأمن وأسيادهم، فلم المكابرة والغرور والتمادي في الأسلوب الذي أثبت فشله؟
لا أعتقد بأن جماعة النمرود عندهم فرصة للتفكير في ما يقومون به من حماقات، ولكن رسالتي لمن هم لهم عقول يفكرون بها، وإن اختلفوا مع معتقلي الرأي، فالاختلاف لا يعني اقصاء الآخر ومحاولة القضاء عليه، خصوصا عندما يكون الفكر إسلاميا وسطيا شموليا معتدلا، إذا كان الفكر شيوعيا أو رأسماليا أو حتى ناصريا سينتهي بسبب انعدام جذوره التي تبقيه صامدا في وجه الرياح والأعاصير، فالفكر الإسلامي أثبت صموده وثباته..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق